هل هذا العلم يمكن تعلمه وتعليمه؟
لا يخفى على أي مهتم بهذا الفن أن هذا العلم شريف جدا، ولذلك امتن الله على نبيه يوسف بقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ… ) [ يوسف: ٦ ]، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعبر الرؤى وكثيرا ما سأل الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا.*1
والحقيقة أن لي وجهة نظر في هذه المسألة؛ أقصد إمكانية تعلم، وتعليم هذا العلم، وهي أنه يمكن تعلمه، وتعليمه. وقد يكون في هذا الرأي غرابة لدى البعض؛ وذلك لكون هذا العلم أشبه بالإلهام والفراسة، وكأن فيه تشبها بالرسل، فوجد الحرج من هذه الجهة ولكن آمل أن نطرح هذه المسألة للنقاش ليكون طرحنا موضوعيا.
وإليكم أهم ما يجعلني أميل لهذا الرأي، وقد تكلمت عليه بالتفصيل في كتابي: تعبير الرؤيا مصطلحات معاصرة أسئلة وأجوبة.*2
قال النووي تعليقا على حديث سمرة السابق: فيه استحباب السؤال عن الرؤيا، والمبادرة إلى تأويلها، وتعجيلها أول النهار، وفيه إباحة الكلام في العلم وتفسير الرؤيا، ونحوهما.*3
وقال ابن حجر تعليقا على الحديث السابق كما في الفتح الحث على تعليم علم الرؤيا وعلى تعبيرها، وترك إغفال السؤال عنه، وفضيلتها لما تشتمل عليه من الاطلاع على بعض الغيب، وأسرار الكائنات.*4
وقال ابن عبد البر كما في التمهيد ١/٣١٣ تعليقا على الحديث السابق: وهذا الحديث يدل على شرف علم الرؤيا وفضلها، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يسأل عنها لتقص عليه، ويعبرها، ليعلم أصحابه كيف الكلام في تأويلها.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في مجموع مؤلفاته: علم التعبير علم صحيح يمن الله به على من يشاء من عباده.*5
وقال في موضع آخر: عبارة الرؤيا علم صحيح ذكره الله في القرآن ولأجل ذلك قيل: لا يعبر الرؤيا إلا من هو من أهل العلم بتأويلها، لأنها من أقسام الوحي.*6
وقد نبه الشاطبي رحمه الله في الموافقات: أنه ما من مزية ومنقبة أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم سوى ما استثني، إلا وقد أعطيت أمته نموذجا ، وهذا يعلم بالاستقراء، ومن ذلك أنه أعطي الوحي له، ولأمته أعطيت الرؤيا الصالحة.*7
وقال الإمام مالك وقد سئل: أيعبر الرجل الرؤيا على الخير وهي عنده على الشر؟ فقال: معاذ الله أبالنبوة يتلعب؟ هي من أجزاء النبوة.*1
وقال الإمام ابن السعدي في تفسيره: ومنها أي الفوائد على الآية السابقة: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا فإن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده.*2
وقال أيضا: ومنها أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه، وتعليمه.*3
ومما يدل على وجود التعلم والتعليم عند الصحابةـ أشرف الخلق ـ ما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسأل أسماء بنت عميس الخثعمية عن تعبير الرؤيا كما في تهذيب التهذيب لابن حجر ١٢/٣٩٩.
وذكر ابن سعد: أن سعيد ابن المسيب رضي الله عنه كان من أعبر الناس للرؤيا، وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذته أسماء عن أبيها أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.*4، وأبو بكر أخذ هذا العلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يدعه أحيانا يعبر بعض الرؤى، ويصوبه أحيانا، وقد يخطئه شانه شأن أي معلم وتلميذه، وقد كان هذا التلميذ بارعا في الكثير من المواقف التي امتحن فيها، ولذلك نجده بعد إحدى المرات، وكان يعبر رؤيا رآها الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم له إعجابا بتعبيره: كذلك قال الملك. ولكن حصل له أيضا أن أخطأ في اجتهاده، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجامله، بل يخطئه ولذا قال له مرة بعد أن عبر عنده: أخبرني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضا وأخطأت بعضا.
كذلك حصل لعائشة رضي الله عنها مواقف تعليمية مع أبيها، فكانت تعرض عليه الرؤى، وحصل لها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المواقف، ولذا فقد عنفها مرة حين عبرت رؤيا لامرأة بأن زوجها يموت وتلد غلاما فاجرا بقوله: ( مه يا عائشة إذا عبرتم الرؤيا للمؤمن فاعبروها له على الخير… ).*5 والشاهد من الحديث طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها أن تسلك منهجا محددا في التعبير، وهو صرفها على الخير.
وقد ذكر الإمام ابن خلدون في مقدمته أن هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها، وتعبيره موجود في السلف والخلف، ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف.*6
أبرز الصحابة الذين كانوا يعلمون هذا العلم لغيرهم
من الأمثلة التي يمكن قولها هنا: ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يسأل أسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها عن تعبير الرؤيا، وهي صحابية تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي ضي الله عنهم، وولدت لهم، وهي ممـن روى لها البخاري، وغيره.
وورد أن سعيد ابن المسيب، وكان من أبرز من برع في هذا الفن اخذ هذا العلم من أسماء بنت أبي بكر، وأخذته أسماء عن أبيها أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، وبالمناسبة فسعيد ابن المسيب رضي الله عنه كان يضاهي ابن سيرين إن لم يتفوق عليه، وقد قال عنه محمد بن عمر كما في الطبقات: وكان سعيد ابن المسيب من أعبر الناس للرؤيا وكان أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذته أسماء عن أبيها أبي بكر. كذلك أخذت عائشة هذا العلم عن أبيها أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين*1 وقد ورد أن أبا بكر كان أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعبيره للرؤى، ومن الأمثلة حين ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض عليه، وله قميص يجره، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فما أولته؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم الدين. وممن نص على أن القائل هو أبو بكر ابن حجر في الفتح.
*1- صحيح مسلم بشرح النووي- (7/228) – كتاب الرؤيا- باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم-.
*2- تعبير الرؤيا مصطلحات معاصرة أسئلة وأجوبة – ص/ ٩٦، وما بعدها، الناشر: دار التدمرية.
*3- صحيح مسلم بشرح النووي- (7/231) – كتاب الرؤيا- باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
*4- فتح الباري – (12/553) – كتاب التعبير – باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
5- مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب- (5/130)- تفسير آيات القرآن الكريم- مكتبة ابن تيمية.
*6- المرجع السابق، ص/143
*7- موافقات الشاطبي- (2/415، 416، 419). بتصرف – كتاب المقاصد – في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة – دار ابن عثمان- ط1-1427هـ 1997م. المملكة العربية السعودية-الخبر.
*1- صحيح مسلم بشرح النووي – (7/225) كتاب الرؤيا – باب تأويل الرؤيا.
*2- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرب المنان، لعبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي- (4/810) – تفسير سورة يوسف – دار ابن حزم- المملكة العربية السعودية – ط1-1422هـ.
*3- المرجع السابق – ص: 816
*4- كتاب الطبقات الكبير لمحمد ابن سعد – (7/124) في أهل المدينة من التابعين.
*5- سبق تخريجه.
*6- مقدمة ابن خلدون ص/٣٨٩
*1- كتاب الطبقات الكبير لمحمد ابن سعد – (7/124) في أهل المدينة من التابعين.